حظر الأونروا- تصفية قضية اللاجئين وتثبيت شرعية الاحتلال؟

في سابقة تاريخية قلّ نظيرها، لم تشهدها أروقة الأمم المتحدة منذ تأسيسها في عام 1945، يُتخذ قرار حاسم بحظر أنشطة منظمة أممية داخل دولة مضيفة. الأمر يتجاوز ذلك ليطال أكبر منظمة أممية، الأونروا، التي أنشأتها الجمعية العامة للأمم المتحدة قبل خمسة وسبعين عامًا، والتي تُعنى بتقديم الخدمات الحيوية لأكثر من ستة ملايين لاجئ فلسطيني مسجل في مناطق عملياتها المترامية الأطراف، والتي تشمل الضفة الغربية، بما فيها القدس الشرقية، وقطاع غزة المحاصر، والأردن، وسوريا، ولبنان.
الأكثر إثارة للقلق هو أن قرار الحظر صدر في منطقة تخضع للاحتلال بموجب القانون الدولي، حيث لا اعتراف أو اعتبار للسيادة الإسرائيلية. هذا الإجراء يشكل انتهاكًا صريحًا لقرار مجلس الأمن الدولي رقم 2730 الصادر في 24 مايو/أيار 2024، والذي يلزم إسرائيل، بوصفها قوة احتلال، باحترام وحماية المؤسسات الأممية وضمان سلامة العاملين فيها.
علاوة على ذلك، يتعارض قرار الحظر بشكل سافر مع رأي محكمة العدل الدولية وفتواها القانونية الصادرتين في 19 يوليو/تموز 2024، والتي أكدت بما لا يدع مجالًا للشك أنه لا سيادة لإسرائيل على الأراضي الفلسطينية المحتلة، بما فيها القدس الشريف، والتي تُعد جزءًا لا يتجزأ من مناطق عمليات الأونروا. هذا يأتي في سياق نهج راسخ تتبعه سلطات الاحتلال، تعتبر نفسها بموجبه فوق القانون الدولي والمبادئ الإنسانية.
إجماع إسرائيلي على طرد الأونروا
على الرغم من الانتقادات الحادة والمعارضة الشديدة من جانب العديد من الدول على الصعيدين العربي والدولي لقرار حظر أنشطة وكالة الأونروا في الأراضي الفلسطينية المحتلة، وعلى الرغم من الدعوات المتكررة إلى التراجع عن هذا القرار، وفي مقدمتها مناشدات الأمين العام للأمم المتحدة أنطونيو غوتيريش، ووزير خارجية الاتحاد الأوروبي جوزيب بوريل، اللذين شددا على أن القرار "سيجعل الأنشطة الضرورية للأونروا أمرًا مستحيلًا، ويتعارض بشكل قاطع مع القانون الدولي ومع المبادئ الإنسانية الأساسية"، فقد ضغطت الولايات المتحدة على إسرائيل لإعادة النظر في القوانين المعادية للأونروا، محذرةً من أن "الملايين معرضون لخطر كارثة إنسانية وخيمة".
جاء التصويت على القرار في مساء يوم 28 أكتوبر/تشرين الأول 2024، وحظي بتأييد ساحق من أغلبية أعضاء الكنيست (92 صوتًا مقابل 10 أصوات معارضة، والتي كانت من نصيب النواب العرب). ينص القرار صراحةً على "منع وكالة الأونروا من أن يكون لها أي تمثيل، ووقف خدماتها، ومنعها من القيام بأي نشاط بصورة مباشرة أو غير مباشرة داخل الأراضي الخاضعة لسيادة الدولة الإسرائيلية". وقد تقدم باقتراح هذا القرار عضو الكنيست بوعاز بسموت عن حزب الليكود، إلى جانب أعضاء كنيست آخرين.
بالإضافة إلى ذلك، أقرّ الكنيست في جلسته اقتراح قانون آخر ينص بوضوح على "منع مؤسسات الدولة وكياناتها وأي شخص يشغل منصبًا عامًا بموجب القانون من إقامة أي علاقة مع الأونروا أو أي جهة تابعة لها، مع إلغاء الإعفاءات الضريبية والحصانة الدبلوماسية التي تتمتع بها الوكالة".
هذا القرار هو مزيج من ثلاثة اقتراحات متفرقة قدمها رون كاتس ودان إليزو ويوليا مالينوفسكي من حزب "إسرائيل بيتنا"، بالإضافة إلى أعضاء آخرين في الكنيست. وتجدر الإشارة إلى أن اقتراح إعلان الأونروا منظمة إرهابية كان من بنات أفكار مالينوفسكي، إلا أنه لم يتم التصويت عليه.
على الصعيد العملي، تلغي هذه القوانين الجديدة الاتفاق الموقع بين سلطات الاحتلال ووكالة الأونروا برعاية أممية في عام 1967، والذي كان يسمح للأونروا بممارسة عملها في الأراضي المحتلة، ويشمل ذلك الضفة الغربية بما فيها القدس الشرقية وقطاع غزة.
تنقل صحيفة "هآرتس" العبرية عن مصدر إسرائيلي رسمي رفيع المستوى قوله إن "اقتراحات القوانين هذه وضعت نتنياهو ووزراءه في موقف حرج للغاية. فهو من قاد الحملة الشرسة ضد الأونروا، لكنه يدرك تمام الإدراك أن هذه القوانين إشكالية للغاية، وقد تورط إسرائيل في مواجهة حتمية مع المجتمع الدولي بأسره".
يبقى السؤال الجوهري الذي يطرح نفسه بإلحاح: ما هو الدافع الاستراتيجي الحقيقي وراء عملية الطرد هذه؟ وما هي التداعيات المحتملة لهذا القرار على المستويات القانونية والسياسية والإنسانية لقضية اللاجئين الفلسطينيين؟
مما لا شك فيه أن الحديث عن محاولات التضييق على وكالة الأونروا لم تبدأ بعد السابع من أكتوبر/تشرين الأول 2023، بل تعود إلى عقود مضت. وعلى التوازي مع ذلك، فإن الاستهداف المنهجي والمتدرج والمتراكم قد تجلى وتصاعد بشكل ملحوظ بعد التاريخ المذكور، وبدأ باتهام سلطات الاحتلال لتسعة موظفين في وكالة الأونروا، ثم لاحقًا لتسعة عشر موظفًا آخرين، زُعم أنهم ينتمون إلى حركة "حماس"، بالمشاركة في أحداث السابع من أكتوبر/تشرين الأول.
مع التصاعد المطرد للاتهامات والمزاعم التي لا أساس لها من الصحة والتي وجهتها سلطات الاحتلال ضد الوكالة، مثل الادعاء بأن أحد موظفي الأونروا قد أخفى رهينة إسرائيلية في علية منزله لمدة 43 يومًا دون تقديم أي دليل قاطع، أو أن الأونروا تسهل لحركة "حماس" بناء الأنفاق تحت مدارسها، أسفرت هذه المزاعم عن تعليق 18 دولة لتبرعاتها المالية للوكالة ابتداءً من شهر يناير/كانون الثاني 2023، ثم عادت 17 دولة منها عن قرارها هذا نتيجة لثبوت بطلان تلك المزاعم، باستثناء الولايات المتحدة التي تعهدت باستئناف تبرعاتها للوكالة في مارس/آذار 2025.
مع تدحرج سيل المزاعم والأخبار الملفقة التي تهدف إلى تضليل الرأي العام وتشويه سمعة الوكالة، والتأثير سلبًا على الداعمين والمانحين، عممت الأونروا ملفًا خاصًا وشاملًا في مايو/أيار 2024 تحت عنوان: "المزاعم مقابل الحقائق"، تناولت فيه أربعة عشر قضية تتهم فيها سلطات الاحتلال وكالة الأونروا، وقدمت الحقائق الدامغة التي تفضح هذه المزاعم.
ربما أبرز ما ساقته سلطات الاحتلال، "نقلًا عن تقديرات استخباراتية مزعومة"، هو أن "حوالي 10% من جميع موظفي الأونروا في غزة، أو ما يقرب من 1,200 شخص، لديهم صلات بحماس أو حركة الجهاد الإسلامي الفلسطينية"، بينما ردت الأونروا قائلة إنها "لم تتلق أي معلومات من السلطات الإسرائيلية حول هذا الادعاء الخطير، ناهيك عن أي دليل ملموس يدعمه".
البُعد الإستراتيجي لاستهداف الأونروا
يرى العديد من المراقبين والمحللين أن الاستهداف الاستراتيجي والمنهجي المتراكم لوكالة الأونروا يرتبط ارتباطًا وثيقًا بقضية اللاجئين الفلسطينيين، ويهدف إلى إلغاء حقهم المقدس في العودة إلى ديارهم، وهذا صحيح إلى حد ما، ولكنه يمثل جزءًا يسيرًا من الصورة الكلية. أما الجزء الأكبر والأهم، فيتعلق بمسألتين جوهريتين:
الأولى: تهدف إلى تنظيف ساحة الجريمة وغسل أيدي العصابات الصهيونية من جرائم التطهير العرقي والإبادة الجماعية التي ارتكبت بحق الفلسطينيين في نكبة عام 1948، والتي أسفرت عن اقتلاع وطرد ما يقرب من 950 ألف فلسطيني قسريًا إلى خارج ديارهم، وتحويلهم إلى لاجئين مشردين بعد اغتصاب أراضيهم وممتلكاتهم ومصادرتها، وترسيخ قاعدة مفادها: "لا لجوء إذًا لا نكبة".
ولهذا السبب، بذل الرئيس الأميركي السابق دونالد ترامب جهودًا مضنية ووقتًا ثمينًا وأموالًا طائلة؛ لنزع صفة اللجوء عن أبناء وأحفاد من طُردوا من أرض فلسطين، وذلك كمرحلة أولى للتخلص من قضية اللاجئين برمتها.
أما الثانية: فتكمن في تثبيت شرعية دولة الاحتلال في الأمم المتحدة من خلال شطب القرار الأممي رقم 194 الصادر عن الجمعية العامة للأمم المتحدة في 11 ديسمبر/كانون الأول 1948، إذ لا تزال شرعية وجود الاحتلال معلقة في الأمم المتحدة إلى حين تطبيق القرارين الأمميين: الأول، القرار 181 الصادر بتاريخ 29 نوفمبر/تشرين الثاني 1947، وهو قرار تقسيم فلسطين، أما الثاني فهو القرار 194 الذي أكد على حق العودة والتعويض واستعادة الممتلكات.
بالنسبة للقرار 181، فقد تلاشت مفاعيله عمليًا في خضم المشهد السياسي المعقد بعد التوقيع على اتفاق أوسلو المشؤوم في سبتمبر/أيلول 1993، وأصبح طي النسيان بعد أن تخلت منظمة التحرير الفلسطينية عن 78% من أرض فلسطين التاريخية، واعترفت بدولة الاحتلال الغاصبة.
تبقى إذًا الخطوة التالية الحاسمة هي إلغاء القرار 194، والطريق إلى ذلك يمر عبر محاصرة الأونروا وشل قدراتها وخنقها حتى لا تتمكن من القيام بالدور المنوط بها وفقًا لولايتها المحددة، لتتحول إلى مجرد رقم عابر في سجلات الجمعية العامة ليس إلا، ومن ثم يتم تدريجيًا إلغاء مسمى "لاجئ" من خلال مشاريع التوطين التي ستُفرض قسرًا على الدول المضيفة وفقًا للرؤية الإسرائيلية الخبيثة. وبالتالي، سيمهد ذلك الطريق لتقديم مشروع للجمعية العامة لشطب القرار 194 بحجة أنه لم يعد هناك لاجئون فلسطينيون.
وهنا يبرز سؤال جوهري وملح: هل يمكن للجمعية العامة أن تشطب القرار 194 الذي أنشأته؟
تاريخ الأمم المتحدة يزخر بالدروس والعبر، ويخبرنا عن شطب القرار رقم 3379 الصادر عام 1975، والذي اعتبر الصهيونية شكلًا من أشكال العنصرية والتمييز العنصري البغيض. فقد تمكنت إسرائيل، بفضل الدعم اللامحدود من الإدارة الأميركية، من شطب القرار في سنة 1991، واستبداله بالقرار 46/86 لسنة 1990. ومع إنهاء مفاعيل القرار 181 وشطب القرار 194، تتحقق الغاية المرجوة لدولة الاحتلال لتصبح دولة شرعية معترف بها كغيرها من الدول الأعضاء في الأمم المتحدة.
90 يومًا على التنفيذ
بعد إقرار القانون من قبل الكنيست، سيُحال إلى الحكومة الإسرائيلية المتطرفة التي ستُمنح مهلة لا تتجاوز 90 يومًا للبدء في تنفيذه، مما سيؤثر بشكل كارثي على الخدمات الأساسية التي تقدمها الأونروا للاجئين الفلسطينيين على مستوى الصحة والتعليم والإغاثة وأعمال البنى التحتية الحيوية، بالإضافة إلى برامج الحماية المتنوعة والقروض الميسرة.
في قطاع غزة المحاصر، يقيم ما يقرب من 1.6 مليون لاجئ مسجل، ويعمل 13 ألف موظف في خدمة هؤلاء اللاجئين، وتنتشر ثمانية مخيمات مكتظة بالسكان، وتضم 706 مدارس تستقبل ما يقرب من 300 ألف طالب وطالبة، إضافة إلى 22 مركزًا صحيًا تقدم الرعاية الطبية اللازمة.
وفي الضفة الغربية المحتلة، بما فيها القدس الشرقية، يوجد 3,850 موظفًا يخدمون 901 ألف لاجئ مسجل، ويتوزعون على 19 مخيمًا، و96 مدرسة تستقبل 46 ألف طالب وطالبة، بالإضافة إلى 43 مركزًا صحيًا منتشرًا في أنحاء الضفة.
خلال هذه الفترة الزمنية القصيرة، سيتم البحث عن بدائل عاجلة لتسلم المهام الجسيمة التي تضطلع بها الأونروا، سواء كانت هذه البدائل محلية أو إقليمية أو دولية. وقد بدأ رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو بالفعل في التواصل مع قادة عدد من الدول، بما في ذلك بعض الدول العربية، للترتيب للمرحلة المقبلة، وخاصة على صعيد قطاع غزة.
يؤكد خبراء القانون الدولي أن تمرير هذين القانونين "يشكل سابقة خطيرة وتعديًا سافرًا على الأمم المتحدة ووكالاتها وميثاقها، بما في ذلك المادتين (2) و(105)، واعتداءً على الأعراف والاتفاقيات الدولية الراسخة، خاصة اتفاقية جنيف الرابعة، وانتهاكًا صارخًا لقرارات الجمعية العامة ذات الصلة بحصانات وحماية المنظمات الدولية، بما فيها قرار تأسيس الأونروا رقم 302 وفق المادة (17)، واتفاقية 1946 بشأن امتيازات وحصانات الأمم المتحدة".
إن الإجماع الإسرائيلي على طرد الأونروا يقابله إجماع دولي آخر، ربما لم يشهد العالم له مثيلًا من قبل، بتأييد ودعم الأونروا على المستوى الرسمي الدولي، وهو ما يجب استغلاله وتوظيفه بشكل فعال على الصعيد الفلسطيني أولًا، وعلى الصعيد العالمي ثانيًا، وتحويل هذا الإجماع إلى فرصة سانحة لتكريس معادلة مفادها: "طرد الأونروا يقابله طرد دولة الاحتلال من الأمم المتحدة".
وهذا يتطلب صياغة إستراتيجية وطنية فلسطينية شاملة وقابلة للتطوير التدريجي، تقوم على التكامل الوثيق بين الفعل السياسي والدبلوماسي والإعلامي والفعل الشعبي المقاوم، وتقودها منظمة التحرير الفلسطينية، مع الأخذ في الاعتبار التحديات الجسام التي تواجه القضية الفلسطينية، وتجاوز الخطابات التقليدية التي تقتصر على ردود الفعل والمناشدات والتصريحات الموسمية.